
محتويات المقالة
Toggleآلان جرينسبان هو المايسترو حقًا الذي عزف سيمفونية الاقتصاد وفجّر فقاعاته؛ فعندما كان جرينسبان يتحدث، كانت أسواق طوكيو ولندن ونيويورك تتوقّف عن التداول لتُدقّق في كلماته؛ فقد امتلك هذا الرجل قدرة نادرة على تحريك خيوط الاقتصاد العالمي من وراء “فيدرالي واشنطن” طوال 19 عامًا، عبر رؤى نقدية وانعطافات فكرية جسّدت ما عُرف لاحقًا بـ“Fedspeak” أو “Greenspanese”. كان في كل تصريح مُراد دقيق لا يُفهم إلا من قبل المطلعين على أبجديات السياسة النقدية؛ وهو الأسلوب الذي أشاد به مؤرخو السياسة الاقتصادية كجزء من احترافية “المايسترو”، لكنه في الوقت نفسه غذّى جدالًا حول مدى غموضه وتأثيره على المخاطر المالية.
من أبرز مظاهر هذا الأسلوب كان أسلوب آلان جرينسبان في فبراير 1994، عندما أشار إلى رفع الفيدرالي لمعدلات الفائدة بعبارة مبهمة: “قررت لجنة السوق المفتوحة رفع الضغط على الاحتياطات”، في إشارة إلى زيادة ربع نقطة مئوية فقط في سعر الفائدة. هذا التصريح البسيط مثّل انعطافة مهمة أدّت إلى نجاح ما سُمي آنذاك بالهبوط الناعم للاقتصاد الأمريكي دون دخول الركود، مما أكسب جرينسبان سمعة القدرة على “تخمين” خطوات السوق قبل حدوثها.
إلا أن هذه المقدرة على التواصل الغامض وتحريك أسعار الفائدة قبل وقوع الأزمات، أصبحت لاحقًا موضوع نقد شديد عندما انفجرت فقاعات الدوت كوم والعقارات. في هذا المقال سنتتبع رحلة آلان جرينسبان من بداياته المبكرة كعازف جاز إلى قمة الفيدرالي، ثم نسلط الضوء على سياساته النقدية وإنجازاته وأخطائه الكبرى، مستندين إلى دراسات أكاديمية وتقارير صحف مالية مرموقة، لنقدّم للقارئ سواء كان مبتدئًا أم محترفًا فهمًا شاملاً ومتوازنًا لشخصية آلان جرينسبان الجدلية.
من هو آلان جرينسبان؟

الخلفية الشخصية والمسار المهني المبكر
ولد آلان جرينسبان في 6 مارس 1926 في حي واشنطن هايتس بنيويورك، لأبٍ كان يعمل في البورصة وأمٍ اضطرت للعمل لتؤمن معيشةً له بعد انفصال والديه. ترعرع في كنف والدته وجدّيه من جانبها، وشهد الطفولة أزمات الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، ما شكّل وعيه المبكر بهشاشة الاقتصاد وأهمية الاستقرار المالي. (1)
تخرج جرينسبان من ثانوية جورج واشنطن في 1943، حيث كان من زملائه في فرق الجاز العازف الشاب ستان غيتز. التحق بمعهد جوليارد للموسيقى بين عامَي 1943 و1944 ليدرس الكلارينيت، وانضم إلى فرقة جاز محترفة، قبل أن يختار العودة إلى الدراسة الأكاديمية في 1945 متجهًا إلى كلية ستيرن للاقتصاد في جامعة نيويورك. (2)
التحول من موسيقى الجاز إلى عبقري الاقتصاد
رغم شغفه بالموسيقى، أدرك آلان جرينسبان أن الاعتماد على العزف لن يلبّي طموحه المهني والاقتصادي. حصل في 1948 على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة نيويورك بتقدير امتياز، ثم نال الماجستير عام 1950. شرع بعدها في دراسة الدكتوراه بكلية كولومبيا تحت إشراف آرثر بيرنز، لكنه قرر تركها عام 1953 للعمل مباشرة في وول ستريت؛ فأسّس شركة Townsend-Greenspan & Co للاستشارات الاقتصادية، وأصبح سريعًا واحدًا من أبرز المستشارين الماليين في الأسواق الأمريكية.
بهذا الانتقال من خشبة المسرح الموسيقي إلى قاعة الاجتماعات المالية، بدأ آلان جرينسبان بناء سمعته كـ«مايسترو» للاقتصاد، يجمع بين الحسّ الفني في قراءة الأنماط وبين الدقة العلمية في تحليل البيانات.
سياسة التيسير الوقائي والوفرة اللاعقلانية

تعريف التيسير الوقائي وأمثلة تطبيقه
سياسة آلان جرينسبان المسماة “التيسير الوقائي” أو ما عرف لاحقاً بـ“Greenspan put” تعني أن الاحتياطي الفيدرالي يخفض أسعار الفائدة ويوفر سيولة إضافية قبل حدوث الأزمات، لا كرد فعل بعد وقوعها. الهدف الأساسي كان بناء ثقة السوق وتفادي الانهيارات الحادة، واستُخدمت أول مرة بعد انهيار “الإثنين الأسود” عام 1987، ثم في أزمات متعاقبة مثل أزمة آسيا 1997 وأزمة روسيا 1998. هذه السياسة نجحت في تخفيف حدة الركود الموضعي وعودة الأسواق إلى مستويات أقرب للتوازن، لكنها أثارت انتقادات لاحقة باعتبارها محفزة على مضاربات مفرطة وبناء فقاعات أصولية متعددة. (3)
للمزيد من التفاصيل حول أدوات السياسة النقدية وكيف يؤثر رفع وخفض أسعار الفائدة على الأسواق، اطلع على مقالنا «التحليل الاقتصادي: الأداة الأساسية للمستثمر».
خطاب “الوفرة اللاعقلانية” وأثره

في 5 ديسمبر 1996، استخدم آلان جرينسبان في خطاب ألقاه بمعهد American Enterprise Institute مصطلح “الوفرة اللاعقلانية” (Irrational Exuberance) للتعبير عن مخاوفه من ارتفاع مبالغ فيه في أسواق الأسهم. سأل حينها: “كيف نعرف متى تتحول الوفرة اللاعقلانية إلى تضخم مفرط في قيم الأصول، والتي تصبح عرضة لانكماشٍ مفاجئ وطويل الأمد؟”. (4)
وقع هذا التعبير في قلب الأسواق، فنزلت بورصات طوكيو ولندن ونيويورك في الجلسة التالية، مما يوضّح مدى تأثير كلماته المباشرة رغم صياغتها المحسوبة بعناية ضمن إطار “Fedspeak”.
آلان جرينسبان في مواجهة الأزمات الكبرى

انهيار “الإثنين الأسود” 1987 وأزمة آسيا 1997
بعد شهرين فقط من تولي آلان جرينسبان رئاسة الاحتياطي الفيدرالي في أغسطس 1987، شهدت الأسواق العالمية انهياراً حاداً خسر فيه مؤشر داو جونز أكثر من 22% في يوم واحد. رد جرينسبان كان ضخ سيولة طارئة وبياناً مؤكداً على دعم النظام المالي، ما أعاد الثقة بسرعة نسبيًا. في أزمة آسيا 1997، خفّض الجرعة من الفائدة ثلاث مرات خلال سبعة أسابيع بالتنسيق مع بنوك مركزية أخرى، فمرّت الولايات المتحدة بأقل الخسائر مقارنة بأسواق أخرى.
أحداث 11 سبتمبر 2001 وسيول النقد
عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، أغلق السوق أسبوعاً كاملاً، وضخ الفيدرالي 100 مليار دولار سيولة في يومٍ واحد، وخفّض سعر الفائدة من 3.5% إلى 1.75% خلال ثلاثة أشهر، ثم فتح خطوط سيولة طارئة مع بنوك مركزية دولية. ذلك الإجراء السريع حدّ من مخاطر الركود العميق وأتاح للأسواق الصمود في وجه صدمةٍ غير مسبوقة.
صعود الفقاعة العقارية وأزمة 2008

الإبقاء على معدل فائدة 1% لمدة عام كامل بعد 2001 خلق مناخاً مثاليّاً لتوسعٍ هائل في الاقتراض العقاري، فانفجرت فقاعة الرهن العقاري عالية المخاطر (subprime) في 2007–2008. رغم رفع الفائدة لاحقاً من 1% إلى 5.25% بين 2004 و2006، جاء ذلك متأخراً حين تراكمت المخاطر لدرجةٍ لم يعد من السهل احتواؤها، مما أدى إلى أكبر أزمة مالية منذ الكساد الكبير.
اعتراف التاريخ والنقد المتبادل
في 23 أكتوبر 2008، مثّل آلان جرينسبان جلسة استماع أمام لجنة الرقابة في الكونغرس لحظة حاسمة في تقييم إرثه. عندما سأله النائب هنري واكسمان عمّا إذا كان قد أخطأ، رد جرينسبان قائلاً:

هذا الاعتراف كان صادماً لرجال الاقتصاد والسياسة الذين طالما اعتبروا أن الأسواق قادرة على ضبط نفسها.
النقد الأكاديمي والصحفي لم يتأخر:
جوزيف ستيجليتز
اتهم آلان جرينسبان بـالإيمان الأعمى بالأسواق الحرة، واصفًا هذا التوجه بأنه “فكرة كهنوتية” أدّت إلى فقاعات مالية متتالية.
بول كروغمان
ناقش في مقاله بصحيفة The New York Times أن آلان جرينسبان كان يجب عليه رؤية إشارات الخطر في سوق الإسكان مبكرًا والتحذير منها بدلًا من تركها تكبر ثم تفجر لاحقًا.
- خصم حصري
2.000,00 $السعر الأصلي هو: 2.000,00 $.1.250,00 $السعر الحالي هو: 1.250,00 $. - خصم حصري
800,00 $السعر الأصلي هو: 800,00 $.500,00 $السعر الحالي هو: 500,00 $. - خصم حصري
1.300,00 $السعر الأصلي هو: 1.300,00 $.800,00 $السعر الحالي هو: 800,00 $.
الدروس المستفادة
من قصة صعود وجَلَل آلان جرينسبان، يمكن استخلاص عدة دروس أساسية لأي صانع قرار نقدي أو اقتصادي:
قوة القرار ومسؤوليته
السلطة النقدية للبنك المركزي قد تفوق سلطة الحكومات أحيانًا، وقرارًا واحدًا في رفع أو خفض الفائدة يمكن أن يؤثر على حياة الملايين يوميًا.
خطورة الإيمان الأعمى بأي أيديولوجية
الإيمان القاطع بأن الأسواق “تنظم نفسها” دون رقابة صار مفتاحًا لفقاعات متتالية؛ وكما قال آلان جرينسبان نفسه بعد جلسة الكونغرس: “كنت في حالة صدمة” عندما اكتشفت أن المؤسسات المالية لم تحمِ حقوق المساهمين.
التواضع والاعتراف بالخطأ قوة، لا ضعفاً
تأخّر آلان جرينسبان في الاعتراف بأخطاء نماذجه النقدية، لكن هذا الاعتراف هو أول خطوة نحو إصلاح السياسات وتجنّب تكرارها.
أهمية التوازن بين تحفيز النمو ومراقبة المخاطر
سياسة “التيسير الوقائي” أنقذت الاقتصاد في التسعينيات، لكنها بنفس الوقت خلقت مناخًا للتوسع المفرط في الاقتراض العقاري. الحكمة تكمن في ضبط المكابح قبل انفلات السيارة بالكامل.
الشفافية والوضوح في التواصل
غموض “Greenspanese” أعطى البنك المركزي هامشًا للتحرّك بهدوء، لكنه في الوقت نفسه أوجد فجوة بين صناع القرار والجمهور العام. الشفافية المبسطة تُعزّز الثقة الشعبية وتقلّل من التوقعات المضللة.
إرث المايسترو والحكم النهائي
آلان جرينسبان هو مثال حي على التوازن الصعب بين الحكمة والنظرية والواقع العملي. حقق إنجازات غير مسبوقة في أزمات عدة، ورافق اقتصاد أمريكا لعقدين من الرخاء المستمر، لكنه أخطأ في تقييم قدرة الأسواق على ضبط نفسها، ما أدّى إلى أزمات كبرى.
في النهاية، يظل جرسٌ إنذارٍ لكل صانع قرار في السياسة النقدية: لا يكفي امتلاك المعارف النظرية، بل يجب الانتباه للتحاليل الواقعية، والاعتراف بالأخطاء سريعاً، وتبني أكبر قدرٍ من الشفافية مع الجمهور. الاقتصاد قصة إنسانية قبل أن يكون أرقاماً، ومن يغفل هذا الجانب قد ينحت اسمه في سجل النجاح… ثم ينساه التاريخ مع أول هزة عنيفة.
آلان جرينسبان هو الاقتصادي الأمريكي الذي تولّى رئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (Federal Reserve) من 1987 حتى 2006، وعُرف بأسلوبه الغامض في التواصل (“Greenspanese”) وبقدراته على إدارة الأزمات المالية الكبرى.
التيسير الوقائي هو سياسة نقدية ينفّذها البنك المركزي عن طريق خفض أسعار الفائدة وتوفير السيولة قبل أن تندلع الأزمات، بهدف تخفيف حدة أي هزة محتملة وإنعاش ثقة الأسواق.
استعمل جرينسبان مصطلح “Irrational Exuberance” في خطاب عام 1996 لتحذير المستثمرين من التضخم المفرط في قيم الأصول، مما أدى إلى تراجع مؤشرات البورصات في اليوم التالي.
أطول فترة نمو اقتصادي مطوّلٍ في تاريخ أمريكا (1991–2001).
احتواء انهيار “الإثنين الأسود” عام 1987 وأزمة آسيا 1997 بنجاح.
استجابة سريعة لأحداث 11 سبتمبر 2001 بضخ سيولة طارئة وخفض فوري لأسعار الفائدة.
الإبقاء على أسعار فائدة منخفضة جدًا بعد 2001، ما ساهم في تضخّم فقاعة الرهن العقاري.
الإيمان الأعمى بقدرة الأسواق على تنظيم نفسها، وتجاهل تحذيرات مبكرة من مخاطر الأصول عالية المخاطر قبل أزمة 2008.
تجربته تذكّرنا بأهمية:
المواءمة بين تحفيز النمو المالي ومراقبة المخاطر.
الشفافية والوضوح في التواصل مع الجمهور.
التواضع والاعتراف المبكر بالأخطاء لتفاديها مستقبلًا.
اكتشف كيف حوّل إدوارد سيكوتا 5,000$ إلى أكثر من 12...
تعرف على سيرة آلان جرينسبان من عازف جاز إلى محافظ...
هل تبحث عن أفضل الأسهم الأمريكية للاستثمار في 2025؟ اكتشف...
أفضل أسهم سعودية للمضاربة اليومية 2025: تعرّف على معايير الاختيار،...